مقدمة:
مع بداية اهتمامي بالبناء بالمواد الطبيعية قبل عدة سنوات، عرضت على جمعية خيرية كنت أعمل معها فكرة أن ننشئ مشروعًا لبناء مساكن مصغرة للمهجرين داخل مدينة طرابلس عوضًا عن بيوت الصفيح أو الخردة التي يقطنون بها، وكنت أرى أن هذه الطريقة في البناء هي مجرد حل اضطراري غير مكلف، ثم عرضت الأمر على جمعية أخرى، ثم توقفت. فقد كانت هناك مشكلتين في ردود الفعل، الأولى أن المشروع عند عرضه يبدو أكبر مما هو عليه فعلًا لأن الذهن يقيس الأمر نسبة إلى البناء الحديث، أما الثانية فكانت عدم القدرة على تخيل هذه الأبنية وتصور أنها يمكن أن تكون بيوتًا محترمة لأصحابها.
ثم تطورت الفكرة بعد البحث، وانتقلت من الإيمان بأن هذا حل مؤقت جيد وقليل التكلفة إلى أنه هو البناء الذي أريد أن أراه في كل مكان وأتمناه للجميع، ولكن مع ذلك كنت قد توصلت إلى يقين بأن هذه الفكرة لكي تتحقق بأي شكل، فيجب أن أحققها بنفسي، وعلى مشروع خاص بي، حتى يكون هو المثال الحي على ما سوف أورده في هذه التدوينة، ومن ثم نقل هذه الخبرة.
لأنه حل تقدمي
بناء عصري:
البناء بالمواد الطبيعية لا يلزم منه أن يكون بطريقة تقليدية، وإنما من الممكن جدًا أن يكون مادة لبناء مباني معاصرة تتوفر فيها التقنيات وسبل الراحة، وكما سيظهر لاحقًا في هذه التدوينة، فإنها تأتي مع مميزات أفضل تتناسب وإيا تحديات العصر. لقد كان الاسمنت مادة مناسبة خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت الحاجة ملحة لإيجاد مواد تسهل وتسرع عملية البناء والإعمار، كما أنه كانت هناك حاجة لإيجاد مادة يمكن تنميطها وبالتالي إخضاعها للآلة وخطوط التصنيع. ولكن بعد عدة عقود من ذلك، بدأت تظهر الآثار الجانبية للثورة الصناعية وأثرها على الإنسان وطريقة حياته وصحته وعلى كوكب الأرض، وأصبح الكثيرون حول العالم يعيدون طرح الأسئلة حول طريقة بناء مساكننا، وعن الأسباب التي دعتنا للتخلي عن الأبنية الطبيعية، ومقارنة سلبياتها مع مميزاتها.
الصورة : بيت عصري مبني بالطين والحجارة
بيوت معمرة :
الشواهد التاريخية تظهر أن عمر الأبنية الطينية المبنية بشكل جيد يمكن أن يتجاوز آلاف السنوات. عمر مدينة بم في إيران مثلًا أكثر من 2500 سنة ولا زالت موجودة.
الصورة: مدينة بام الأثرية 2500 قبل الميلاد - إيران Ancient Bam
من أجل بيئة أفضل داخل البناء
حوائط متنفسة Breathable Wall:
تصنف المنازل المبنية بالمواد الطبيعية كمنازل عالية الجودة High Standard Home. فالحوائط الحاملة السميكة التي تتكون منها الأبنية الطبيعية بالتربة الطينية تصنف كحوائط متنفسة Breathable Wall فهي مسامية Porous تسمح بمرور رطوبة الجو محافظة على هواء منعش بالداخل. وقد سُجل في أحد التجارب نسبة رطوبة 50٪ بالداخل مقارنة بنسبة 80٪ في الأبنية الأسمنتية المجاورة. فمشكلة البناء الحديث أن المواد الكيميائية والبلاستيكية تعمل كعوازل تحبس الرطوبة بالداخل.
حوائط مخزنة للحرارة High Thermal Mass:
تعمل حوائط التربة الطينية والحجرية على تخزين الحرارة المكتسبة من الشمس أو أجهزة التكييف لفترات طويلة، لأنها تكتسب وتفقد الحرارة ببطء. فعند انخفاض درجات الحرارة تقوم الحوائط بإطلاق حرارتها المكتسبة فتعمل عمل المدفأة. أما عند ارتفاع درجة الحرارة فإنها تحافظ على برودة الجو بالداخل نظرًا إلى أن الحرارة تحتاج إلى مدة طويلة للرفع من درجة حرارة الجدار والتأثير على حرارة داخل المبنى فتعمل عمل المبرد. ( للمزيد إقرأ تدوينتي: الفرق بين العزل الحراري والتخزين الحراري). كما أن تبخر الرطوبة المخزنة داخل الحوائط يمتص معه - أي البخار - طاقة حرارية ينتج عنه عملية تبريد إضافية للحوائط. عملية تشبه الآلية التي تحتفظ بها جرة الفخار على برودة الماء. (للمزيد ابحث عن: التبريد التبخيري - Evaporative Cooling - الزير - Pot-in-pot refrigerator)
الشكل (مترجم من الإنجليزية): يمكن في الشكل ملاحظة، كيف تقوم الحوائط الطبيعية بتكييف الحرارة بالداخل، فهي تؤخر انتقال الحرارة في ذروتها إلى الداخل، وتكون لها ذروة قصوى منخفضة، بينما تحافظ على متوسط حرارة مريح عند انخفاض درجة الحرارة
راحة نفسية:
كل الذين زاروا المباني الأثرية يجمعون على أمر، وهو الراحة النفسية التي يجدونها داخلها. فهي بمنحنياتها وخطوطها وروائحها جزء وامتداد للطبيعة، منها وإليها. ولأن عملية بناءها أقل قابلية للتنميط، فقد وجدت دائمًا لمسة إنسانية قوية تزين ملامحها، وتعبر عن أصحابها. والنتيجة عمل يتماهى مع الطبيعة لا ضدها.
حوائط معقمة وغير مثيرة للحساسيات:
انخفاض نسبة رطوبة الجو داخل الأبنية الطبيعية يؤدي بطبيعة الحال إلى منع نمو الفطريات وحدوث التعفنات. وإذا كانت الحوائط مطلية بالجير فوق هذا فإن هذه المادة القلوية تعمل كمضاد طبيعي للفطريات والبكتيريا. وهذا يؤدي إلى الحماية من الإصابة بعدة أمراض تنفسية وأنواع الحساسيات التي تشير الأبحاث أن البناء بالطريقة الحديثة هو أحد مسبباتها، (للمزيد ابحث عن: Low Allergy Housing)
حوائط عازلة للصوت:
الحوائط المبنية بالتربة الطينية لها قدرة عالية على امتصاص الصوت، مما يوفر الهدوء بعزل الداخل عن ضوضاء الخارج، وعن الداخل عن الداخل أيضًا.
حوائط التربة الطينية غير قابلة للاشتعال في حال حدوث الحرائق
حوائط التربة الطينية السميكة مضادة للرصاص.
من أجل بيئة أفضل خارج البناء
التقليل من ظاهرة الاحتباس الحراري:
فإن استخدام المواد الطبيعية يقلل من الحاجة لاستخدام الاسمنت. الاسمنت هي المادة المصنفة على أنها ثاني أكثر مادة استخدامًا في العالم بعد المياه (بمتوسط 3 طن سنويًا لكل إنسان على الأرض)، والتي تساهم عملية تصنيعها بشكل كبير في تلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري Green House Effect.
التقليل من المخلفات:
وهذا سيقلل بالمقابل من حجم المخلفات الاسمنتية المهولة الناتجة عن الهدم والتي تردم غالبًا تحت الأرض. ففي المقابل، تأتي مواد البناء الطبيعية من الأرض تحت أقدامنا وستعود إليها لاحقًا لتعود جزءًا من الأرض بعد هدمها.
تخفيف حدة ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية Urban heat island:
وهي ظاهرة أن درجة الحرارة داخل المدن تكون أعلى من درجة حرارة الأرياف بمقدار 10 درجات مئوية وذلك يحدث لسببين: الأول وهو الأكثر تأثيرًا وهو تغير جغرافيا المكان بحيث تصبح غالبها من الخرسانة والاسفلت، والثاني بسبب الحرارة الناتجة كمخلفات لاستهلاك الطاقة الكهربائية.
لدوافع إنسانية
قيمة معنوية وتاريخية:
أن تبني منزلك بنفسك وبكلتا يديك هي حقًا تجربة فريدة من نوعها، ذات قيمة معنوية عالية خاصة لمن يحبون الاعتماد على أنفسهم.
القدرة على الارتجال والتعبير عن الذات:
فإن كان لديك الحس، والثقافة المعمارية الكافية، وتراكم الخبرة، فإبمكانك بناء بيتك دون اللجوء إلى معماري أو إنشائي - إذا كان هذا البيت صغيرًا بالطبع - رغم أن الاستعانة بهم هو الحل المثالي والأفضل. وذلك لأن البناء بطريقة الحوائط الحاملة، هي طريقة بسيطة تخلو من التعقيدات الإنشائية، وقد كان الناس يفصلون ويبنون بيوتهم بأنفسهم عندما كانت الخبرة متوارثة ومتوفرة لديهم، وكانت معالم الهوية راسخة في أذهانهم. فكانت مساكنهم حينها تعبر عنهم وعن بيئتهم وعن حالتهم الاقتصادية والاجتماعية. ولكن بسبب ضياع كل ما سلف من وعينا ومن ثقافتنا، فإن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المهندسين المعماريين المهتمين بالعمارة المحلية بإعادة هذا الوعي إلى أذهاننا ودفعنا كمجتمع للتعامل مع العمارة والبنيان على أنه امتداد لذواتنا وليس منتجًا يمكن استيراده أو تصديره، كما يقع على عاتق كل المهمتين بتقنيات البناء الطبيعي على إعادة إحياءها ونشرها وتدوينها.
خلق الإنسان من طين:
ففي هذا بعد روحاني ووجداني خاص. بالذات مع وجود تشابهات بين خصائص الحوائط الطينية وجلد الإنسان. كما أن الطين يختلف بعدد أعراق الإنسان وأجناسه، فكل أرض طينية في أي منطقة وأي مدينة وأي بلد يختلف في لونه عن غيره، وفي مكوناته، وفي بعض خصائصه.
لدوافع اقتصادية
أقل تكلفة وأعلى جودة:
مواد البناء الطبيعي مواد غير مكلفة، ولكن استخدامها في البناء في المقابل يحتاج إلى مجهود أكبر لتنفيذ الأبنية بها. لهذا؛ ففي حال التمكن من الاستغناء عن اليد العاملة مدفوعة الثمن إما بالاعتماد على النفس أو بالحصول على يد العون، فإن هذه الطريقة في البناء من الممكن أن تكون رخيصة مقارنة بغيرها لكن أعلى جودة، ولكن الضريبة هي هذا المجهود الإضافي، أن تستبدل المصاريف المالية بالمجهود العضلي. أيضًا فإن الحائط الطيني عندما يتم بناؤه يكون تقريبًا قد وصل إلى مرحلته الأخيرة فهو لا يحتاج إلى "لياسة" و "ستوك" و "طلاء"، ولكن يمكن الطلاء أو التجصيص بالمواد طبيعية كالجير والتي تعطي إحساسًا ناعمًا وهادئًا للمكان.
أقل استهلاكًا للطاقة:
بسبب الخصائص التي سبق الحديث عنها فيما يتعلق بتعامل التربة الطينية مع الحرارة، فإن الحاجة إلى تكييف الجو تكون غير ضرورية إذا كان البناء جيد التهوية، وإذا ما تم استخدامه لسبب من الأسباب، فإن الحوائط من خلال امتصاصها للحرارة تديم وتطيل أثر أجهزة التكييف حتى بعد إطفائها.
التأثير إيجابيًا على السوق وتنويع الخيارات:
من خلال تنويع طرق ومواد البناء، يتم التخلي عن الاسمنت كخيار وحيد للبناء وبالتالي تحجيم عملية تغول التجار واحتكار المادة والتلاعب بأسعارها وفرضها على المستهلك بطريقة "خوذ وإلا خلي"، وتوفير حلول بديلة للشباب وذوي الدخل المحدود.
أسلوب حياة غير استهلاكي ومحافظ للبيئة:
يذهب البعض بالبناء الطبيعي إلى أبعد من هذا، فيجعلونه جزءًا من أسلوب حياة متكامل يحترم الطبيعة ويحمي المناخ، فيزروع ويربون الحيوانات ويدورون المياه والفضلات لإعادة استخدامها، وهو ما يعود على الكرة الأرضية بالنفع، ويعود على أصحابها بتقليل الحاجة للاستهلاك والاعتماد على السوق.
لعوامل شخصية
رياضة مُنتجة:
وهذه نقطة شخصية بالنسبة لي، فدائمًا ما واجهت مشكلة في ممارسة الرياضة في الصالات الرياضية، حيث ينتابني دائمًا ذلك الإحساس بالهدر أن استهلك طاقتي في رفع أوزان ضد الجاذبية وخفضها بشكل تكراري دونما انتاج، طاقة يمكن توظيفها في عمل ما، بحيث أستفيد منه بدنيًا، وأستفيد أيضًا من هذه الطاقة للحصول على منتج ما.
الاعتماد على النفس:
منذ أن بدأت في تجربة البناء تكررت على مسامعي جملة "جيبلها عُمال" عشرات المرات إم لم يكن أكثر، إلى حد الملل. وقد كنت حينها غير متشدد في مسائل أن أبني بيتي بنفسي، ولكن لأن التجربة كانت جديدة ومستقبلها غير واضح كنت أعمل لوحدي من أجل تقليل التكاليف ومن باب أنه لم تكن لدى خطة عمل دقيقة استطيع أن آتي بالعمالة وفق عليها ودفع أتعابهم باليومية، كان الهدر ليكون كبيرًا لأن كثير من الوقت أمضيه في التجارب وفي تنفيذ أفكار لست واثقًا من أهميتها بعد. ولكن مع تردد هذه الجملة بدأ يتضح عندي الخلل البين في طريقة تعاملنا كمجتمع مع الأعمال اليدوية المختلفة، ودرجة اعتمادنا على العمالة في إنجاز الأعمال الصغيرة والكبيرة. وأن السمت الغالب للناس هو الترهل الجسدي نتيجة للتكاسل والتواكل. فتجد الشاب الثلاثيني إذا ما صعد سلالمًا أو جرى لأمتار لهث وكأنه سيغشى عليه، وإذا ما مارس عملًا جسديًا اشتكى من الآلام لأسبوع. وقد عشت بنفسي سنوات ألزمتني فيها طبيعة عملي (الكمبيوتر) وطبيعة نشاطاتي الأخرى (القراءة غالبًا) بالجلوس في أغلب أوقات النهار والليل بطريقة غير صحية كان تخلق في ذاتي نوعًا من الكآبة والشعور المزمن بالإرهاق والأرق. ومن هذه الملاحظات بدأت فكرة البناء دون اللجوء إلى عمالة تزداد حضورًا في نفسي، واتخذت رد فعل متطرف قليلًا لإيصال هذه الرسالة، وأنا أقول متطرف لأنني أعلم أن ما أنوي القيام به ليس هو الاعتيادي، أو ما أريد دعوة الناس للعمل عليه، أو ما يمكن أن يصبح مشروع عام قابل للتطبيق من قبل الجميع. ورغم هذا الموقف المتطرف، تحضرني دائمًا عبارة أحد المهندسين حيث يقول: "يستطيع عشرة أشخاص أن يبنوا عشرة منازل، ولكن لا يستطيع شخص واحد أن يبني منزلًا واحدًا، عبارة أريد أن أضعها قيد الاختبار بعد عدة عقود من قولها .. فهل هذا الزمن بوضعه الاجتماعي وتركيبته يسمح بأن يلتقي فيه عشرة أشخاص لبناء عشرة منازل لأنفسهم؟ وإذا افترضنا أن الإجابة كانت لا، وأن هذا الزمن هو زمن الفردانية، فهل يعجر الإنسان فعلًا عن بناء بيته بنفسه؟ أسئلة أضعها للاختبار وأنا انتظر معكم الإجابة.