لقائي مع صحيفة العرب العالمية، حوار عفاف خليفة، أبريل 2010

لقائي مع صحيفة العرب العالمية، حوار عفاف خليفة، أبريل 2010

ليلي | نهاري

التصوير لغته، هو فنان، يحدثك بصور شتى، بتكوينات وإضاءات، ينتقي زواياه بإتقان شديد، يقرب الخيالات التي نشكك وضوحها، صور لا نتوقع التقاطها، يقول عن صوره أنها ( تحمل وجهة نظري بكل تأكيد وتستوعب وجهات نظر مختلفة، قد لا تستطيع صورة واحدة أن تعبر عني وأميل للإعتقاد بأن مجموعة أعمالي هي التي يمكن أن تعبر عني ). ولأن صوره بالذات هي التي دعتني للقاء به، لما حملته من معاني ودلالات، استنتجت بعضها، وشرح لي بعضها الآخر، ( الفنان أحمد زبيدة )، عرفته يجيد التصوير، ووجدته محاوراً جيداً أيضاً، وقد كان لي معه هذا اللقاء القصير ..

الموهبة .. التصوير .. من يمتلك موهبة التصوير في رأيك ..؟

سأجيب عن السؤال بالالتفاف قليلاً حتى نقترب من المقصد بشكل سليم .. لقد اختلفت الآراء النقدية والفلسفية حول تحديد مكان التصوير الفوتوغرافي من الفن منذ ظهوره، لن تسعفني المساحة هنا للخوض في هذه الاختلافات ولا تطوراتها ولكني سأحاول اختصار الأقوال من وجهة نظري الخاصة .. أعتقد أن هناك تصوير فوتوغرافي وفن تصوير فوتوغرافي، التصوير الفوتوغرافي تقنية هدفها تخليد ( الزمان - المكان ) داخل إطار وأنا أشبه هذا بالنصوص التقريرية والطبية والجنائية والتاريخية، إن الصورة (الإخبارية) عملية أرشفة ترفعت عن اللغة الخطابية الوصفية الوسيطة الناقلة إذ تحمل علاماتها بنفسها كخامة غير مترجمة ولكنها في ذات الوقت لا تُحمِّل - بشد الميم - دوالها أكثر من دلالاتها الظاهرة أي زمن الالتقاط ومكانه ومكونات الصورة .. فن التصوير الفوتوغرافي هو إدخال ما يشبه الأدوات الأدبية البلاغية على النصوص لتحمل دوالها دلالات جديدة وبعداً آخراً، فتتحول الصورة من ثم إلى لوحة، وتتحول المكونات إلى علامات تتأثر بالعلامات الموجودة داخل نفس الإطار لتعطي معاني مختلفة كلياً وذلك بإنشاء معنى مركب من وحدة هذه العلامات، فتصبح الصورة لا تشير للمصوَّر بفتح الواو فحسب ولكنها تشير إلى وجهة نظر المصوِّر بكسر الواو وتقدم لغة بصرية جديدة تخاطب خيال المتلقي وإحساسه وثقافته، في فن التصوير يصبح العالم الخارجي أداة لمخاطبة الدواخل ولا يكون هو الغاية في حد ذاته وإنما وسيلة فقط لتجسيد الدواخل.

تمتلك بعض الصور الإخبارية القدرة على إحداث الصدمة في نفس المتلقي ولكن هذا لا يتحقق إلا بنقل الصدمة من العالم الخارجي بشكل حرفي إلى الصورة، الصدمة في التصوير الفني تحدث كنتيجة لفك المتلقي الشفرة المبعثرة في التكوين واكتشاف الدلالات المناسبة لإيجاد العلاقات الرابطة بينها ومن ثم تجلي معنى الصورة وبالتالي حدوث الصدمة، ويتطلب لإنشاء كلتا الصدمتين من المصور نمط عمل مختلف .. فتعتمد الأولى أكثر على ضرورة "التواجد" في الزمان والمكان المناسبين، وتعتمد الثانية على ضرورة "التأمل" في جميع الأزمنة والأمكنة لكل ما هو حوله، البحث يكون على مستوى عميق وليس على المستوى السطحي للأشياء وللأحداث .

كل هذا لأقول أنني لا أجد لكلمة (موهبة التصوير) مكان، تقنية التصوير علم يمكن إتقانه بعد سنوات قليلة من الممارسة ولا يحتاج إلى أي قدرات فطرية، التصوير الإخباري يحتاج إلى توحد العمل الفوتوغرافي مع حياة المصور وعيش حالة التأهب الدائمة انتظاراً للحظة المناسبة، الفن الفوتوغرافي يحتاج من المصور أن يغير آلية عمل نظامه البصري بحيث تتحول الحياة أمامه إلى إطار ضخم مقسم إلى عدد لا نهائي من الإطارات وأن يتحول كل شيء أمامه إلى أداة لها شحنة عاطفية، اجتماعية، ثقافية، تاريخية، سياسية، دينية، لغوية، تعرض هذه الآلية التحليلية نتائجها على (ذات المصور بكل ما تحمل) لتقوم الأخيرة بعملية انتقائية تحدد مكان الإطار الذي سيقوم بدوره باختيار المكونات وترتيبها بحيث تنشأ العلاقات التي تنقل المشهد من خيال المصور إلى المتلقي .. فهل يمكن أن نقول أن الموهبة هي موهبة التأمل أو النظر ؟ قد أمتلك أنا موهبة ولكني لم أشعر بوجودها، لطالما اعتقدت بأن الصورة لغة كأي من اللغات ويكمن الاختلاف والتميز فقط في مدى استيعاب أدوات هذه اللغة وإتقانها وفي ما نوظفها فيه. قد تكون الموهبة الفوتوغرافية كموهبة الشاعر الذي يبدع باستخدام لغة يتكلم بها كل من يفهمها.

متى يصور أحمد زبيدة ..؟ وما الذي يصوره ..؟

أنا مستعد للتصوير دائماً، ومعداتي لا تفارقني، أعيش حالة مستمرة من التأمل ترافقني منذ الطفولة .. الباقي يأتي لوحده. لا أحب ما يخالف هذا البروتوكول كالتصوير الصحفي وتصوير الوجوه الذي يأخذ فيه فعل التصوير جواً من التكلف، لا أحب رؤية الناس وهم يحاولون إخراج دواخلهم الناقصة على هيئة خارج يدعي الكمال، فهذا يحاول الابتسام وهذا يحاول أن لا ينظر إلىَّ والآخر ينظر للأفق البعيد وغيره أن يبدو ذكياً وغيره أن يبدوا جاداً .. هذه الوضعيات تجسد أمامي ممارسات المجتمع على مستواه المظهري هذا المستوى الذي لا أحبه، ولا أحب أيضاً العلاقة التي تنشأ بيني وبين من يقف أمامي لحظة الالتقاط، أحب داخل الإنسان .. كل ما لا يطفو إلى الخارج وما لا يريد الخروج ولا يخرج إلا بشكل غير مباشر، يجب أن يكون كل شيء على طبيعته ليحظى بشرف التخليد.

بعض صورك مما شاهدته تدعوني لسؤالك عنها كصورة ( برج الساعة – والقبور – ولجذور الشجر ) ما المعنى الذي أردت أن توصله لنا من خلالها ؟

كوني مصور أحمل الكاميرا معي دائماً، وكوني إنسان يجد في التصوير وسيلة مناسبة لتخليد الذكريات بشكل أدق مما تستطيع الذاكرة فعله، فإن بعض صوري إخبارية .. أي هي توثيق زماني مكاني أستعين فيه بما أوتيت من خبرة تقنية لإظهار المشهد بأفضل هيئة لا أكثر، كصورة برج الساعة مثلا، أما بقية الصور وهي التي اخترت التصوير الفوتوغرافي كفن لأجلها ( كصورة القبر وجذر الشجرة مثلاً ) فهي تخليد لإحساس ما، وعادة ما أقوم لأجل هذا التخليد بإقصاء دوال المكان والزمان الكليان المرتبطان بالإطار، سامحاً بذلك للدوال الجزئية المرتبطة بالتفاصيل والمكونات أن تظهر، وعندما تظهر هذه الدوال بهذا الشكل فإنها تصبح وسيلة أنتج بها هذا الإحساس. أعتقد أن الإحساس هو أعلى طبقة من طبقات الصورة ويستطيع أن يصل إليه كل متلقي. المستوى الثاني يقتحمه المتلقي عند محاولة تجسيد هذا الإحساس أو اكتشاف ماهيته، قد يقود هذا المستوى إلى المستوى الثالث وقد يكتفي المتلقي بهذه المتعة المؤقتة أو بهذا الغموض على هيئة تجربة حسية غير ناضجة. مفتاح المستوى الثالث هو رغبة المتلقي الملحة في تفسير هذا الإحساس أي هو مستوى طرح الأسئلة وهو المستوى الذي يكشف فيه المتلقي عن إمكانية إقامة حوار مع الصورة وعن أن هذه الصورة لها أسئلة كما للمتلقي. المستوى الرابع وهو الذي لا يدخله إلا المقربون ( الباحثون عني ) وفيه يدخل المتلقي إلى ما وراء إطار الصورة ليخرج من الناحية الأخرى وكأنه يمارس (الهندسة العكسية) بحثاً عن التجربة التي أدت إلى تكون الصورة وعن العلاقات الأصولية التي استطاعت أن تشد انتباهي وأن تجعلني أقتبس هذا الإطار دون ملايين الإطارات التي كان يمكن إنشاءها في نفس المكان وفي نفس اللحظة. هذه المستويات استشعرتها عند تلقي التعليقات والتعقيبات عن الصور التي أعرضها على الشبكة العنكبوتية أو من الزملاء والأصدقاء.

كل هذه المستويات تنطلق من الإحساس الغير مفسر الذي تثيره الصورة، وكل المعاني التي تحملها الصورة والتي يصل إليها المشاهد يجب أن تعود لتأكيد الإحساس نفسه الذي تصبح له ملامح أوضح وتصبح له قيمة بعد إنتاج المعنى والتفاسير المناسبة له، أحياناً .. أضع بعض الكلمات المبهمة كتعليق على الصورة، ولكنها في العادة لا تحمل معاني واضحة، وليس لها القوة الكافية لإجبار المتلقي على خوض مسار معين في الفهم أو التفسير، إنها مشفرة بحيث لا ترتبط إلا بوجهة نظري الشخصية، ولكنها لا تمنع المتلقي من أخذ مسارات أخرى في الفهم أو إنشاء وجهة نظره الخاصة، ستبدو الكلمة في تلك الحالة (بلا قيمة) وهذا لا ينتقص من وجهة نظر المتلقي إنما دور تلك الكلمة فقط أن تضعني في نقطة ما قد يلتقي بي عندها أحدها العابرين.

هل يدور حوار بينك وبين صورة ما قبل التقاطها ..؟

لا بد أنك تقصدين المشهد (ابتسامة ساخرة)، إذ لا يمكن إقامة حوار مع صورة لم تلد بعد، ولكن إجابة عن سؤالك .. نعم .. هناك حوار أولي مع المشهد، ثم مع الصورة البدائية عند إنتاجها في المعمل لإدخال الصيغ البلاغية عليها ثم مرة أخيرة كمتلقي يشاهد الصورة المكتملة في محاولة مني لاكتشاف لا وعيي والجزء الذي لا أراه في نفسي إلا بـ (الخروج عني).

هل يجب أن نفكر قبل أن نحكم ونكون انطباعاً على صورك .؟

ما كان لصورة أن تأتي بذاك التكوين لولا الفكر، أما انطباع الآخر فيهمني أن لا يكون سابق لأوانه وأحب أن يمنح صاحبه للصورة حقها الكامل في العبور إليه ثم حق أن يعبر فيها .. ومن ثم .. يكون له أن يكوِّن ما شاء من انطباعات،

يقال عن الفن التشكيلي أنه رسالة لامتداد الحضارات بل هو يعطي صورة عن حاضر وتراث المدن فما الذي يمكن أن يوصله التصوير .؟

يقول بارت أن خاصية الصورة الفوتوغرافية تكمن في [ نوعية الوعي الذي تحركه أو تصنعه : إن المشاهد للصورة الفوتوغرافية يعي في نفس الوقت الكينونة الآنية للشيء الممثل كما يعي كينونته الماضية أيضاً، إن الصورة تختلق صنفاً جديداً من الزمان / الزمكان اللا منطقي بين (هنا) و (في الماضي)، إنها تؤسس لما يسميه (لا واقعية الواقع الفوتوغرافي) أي إن عودة الحرفي والتقريري يطبع المدلولات الإيحائية للتاريخ والثقافة ] ولهذا فإن إخضاع هذا القول للتقسيمين اللذين قسم إليهما التصوير الفوتوغرافي أي ( التصوير الفوتوغرافي وفن التصوير الفوتوغرافي ) ينتج وجهة نظر وهي أن التصوير الفوتوغرافي يحمل الواقع المجرد في زمن ما إلى الأزمنة الأخرى بشكل محايد، وهذا الحياد تخلقه شفافية المصور الذي لا يخضع الصورة لرؤيته الخاصة، وإنما يقوم فقط بعملية تثبيت اللحظة لمنحها القدرة على الامتداد عبر الزمن ونقل خصائص المكان إلى "أي مكان"، فن التصوير الفوتوغرافي يشبه الفن التشكيلي إذ كلاهما يمر بذات الفنان مما ينتج صورة تقوم بصياغة المكان والزمان انطلاقاً من ذات المصور، أي أنها تخضع لممارسته الفنية منتجة وجهة نظر تختلف من فنان إلى آخر.

المصور عادل قاسم يقول ( إن كل مصور يجب أن يحب الصورة التي تعب وأجتهد فيها فأنا أعشق وأخاف على الصورة التي أتعب وأجتهد فيها كثيراً كما إنني اعتبر الصور بمثابة أرشيف وتاريخ وجب الحفاظ عليه ..) ما رأيك بهذا .؟

أتفق مع الجزء الثاني المتمثل في الخوف على هذا المخزون، فهو غير قابل لإعادة الإنتاج أو للتعويض، لا يمكن إعادة صنع نفس الصورة إلا بالعودة عبر الزمن وهذا ما أظنه حسب علمي مستحيلاً .. وأختلف معه في الجزء الأول فعادة ما أميل للتخاصم مع صوري في نهاية المطاف وربما هذا سبب آخر يجعلني أتردد في عرض أعمالي في معرض. إنها كعلاقة الأب مع ابنه يبقى الحنان رغب شدة العتاب أو الاختلاف.

إذا ما اعتبرنا أن التصوير لغة فكيف يخاطبنا بها أحمد زبيدة ..؟

كانت لي تجارب في الكتابة الأدبية والشعرية ولا زلت أخوضها من حين إلى آخر، بداية ترفعي عن هذه اللغة كان بعد اكتشافي لهذه اللغة الأم، هذه اللغة العالمية، لغة التصوير، أخاطبكم اليوم بها ولكن كما كنت في السابق، بتوظيف أدبي وشعري لا يخلو من أدوات البلاغة.

ماذا تمثل المعارض للفنانين وأين أنت منها ..؟

إذا كانت الكتابة محاولة لظهور الذات بشكل مجسد ومحاولة لترجمة الأحاسيس والخيال، فإن آلة التصوير هي الآلة التي تتقاطع مع مسار العلاقة بين خارج وداخل المصور، أي الواقع وذاته، تتوسط الوسطين ناظرة مع المصور، إذا فالمعرض الفوتوغرافي عبارة عن زيارة إلى ذات المصور أو إلى تجربة ما متحققة فيها، لا زلت أبحث عن هذه الذوات وعن وجهات النظر في كثير من المعارض التي أشاهدها ولكن عادة ما تكون غائبة، لا شيء أكثر من عروض للخارج وليس للداخل، فإما أن تأخذنا إلى أماكن مختلفة في هذا العالم أو إلى أزمنة مختلفة فيه، أبعد نقطة نقدية يتوصل إليها المشاهد عادة هو تحليل الصورة تقنياً أو خلق مناقشة تتخطى الصورة والمصور إلى الواقع الذي تحمله الصورة.

أين أنا منها ؟ لدى من الصور ما يسمح لي بالظهور ولكني أتريث حتى لا أقع في الأخطاء، أطمح لأن يضفي ظهوري الأول تغييرا في مفهوم العرض الفوتوغرافي السائد في ليبيا، أريد أن تكون التقنية بداية للفن وليس غاية له، أريد أن أقول أنه لا يشترط أن يكون المصور (كثير السفر) ليكون مصوراً ناجحاً، وأن قيمة الصورة تكمن في نفسها وليس في قيمة المكان الذي تصوره، أن المعرض الفوتوغرافي يجب أن يحمل رسالة وأنه ليس مجرد عرض لـ (صور جميلة)

لا ننسى أن العرض الفوتوغرافي قد أخذ قبل سنوات منحنى جديد وهو النشر عبر الانترنت والذي أراه يشكل ربكة شديدة عند المصور إذ تجعله في حالة كثيرة التردد لأجل اختيار فلسفته في النشر. فلكل طريقة عرض مفهوم خاص وفلسفة خاصة مختلفة جدا وأبرزها سعة الانتشار وفقدان الملكية.

هل عبرت كل صورك عنك ..؟

كل صوري تحمل وجهة نظري بكل تأكيد وتستوعب وجهات نظر مختلفة كلياً أيضاً، قد لا تستطيع صورة واحدة أن تعبر عني أميل للاعتقاد بأن مجموعة أعمالي هي التي يمكن أن تعبر عني، ورغم هذا لا تتمكن أي لغة من التعبير عن الإنسان بشكل مطلق.

كتب: أحمد زبيدة
يوم الأربعاء 21 أبريل 2010